التعليم و المجتمع المدني د/كمال مغيث

 (التعليم والمجتمع المدنى .. من هنا نبدأ) يقدمها : المركز القومي للبحوث التربوية

د/ كمال مغيث . . . التعليم والمجتمع المدنى .. من هنا نبدأ

تتزايد كتلة وحجم التعليم يوما بعد يوم، كما تتزايد ميزانيته التى وصلت هذا العام الى مايزيد على اربعين مليارا من الجنيهات، ووصلت اعداد الطلاب فى المدارس المختلفة  من حيث النوع ( عام وخاص ، فنى : تجارى ، زراعى ، صناعى ،وازهرى ) ومن حيث المراحل ( ابتدائى – اعدادى – ثانوى ) ما يقترب من 20 ( عشرين  مليونا من الطلبة والطالبات) كما تزيد اعداد المعلمين على مليون ومائتى الف معلم ومعلمة، كل هؤلاء تنتظمهم اثنين وخمسين الف مدرسة ومعهدا دينيا

 ويمكننا القول ان التعليم النظامى قد هيمنت عليه الدولة، منذ تأسيس الادارة الحديثة فى مصر فى عهد محمد على ( 1805 – 1848 )، وذلك منذ انشاء اول ادارة مركزية تهيمن على شؤون التعليم والتى انشئت تحت اسم ديوان المدارس سنة 1836، تغيرت بعد ذلك الى نظارة التعليم مع انشاء الحكومة الحديثة فى عهد الخديوى اسماعيل سنة 1878 ، وتغيرت بعد ذلك الى اسمها الحديث وزارة المعارف مع اول حكومة بعد ثورة 1919 وكان ذلك فى سنة 1924، وفى سنة 1956 وفى ظل ثورة يوليو اخذت اسمها الحالى وزارة التربية والتعليم

المهم ان وزارة التربية والتعليم تعد هى المسؤول الاول  وبشكل كامل عن مايزيد على ثمانين بالمائة من هذا الحجم الهائل لنسق التعليم فى مصر، وتعد مسؤولة بشكل جزئى عن  جزء كبير من النسبة الباقية والمتمثل فى التعليم الخاص والدولى

فوزارة التعليم هى المسؤولة بشكل أساسى عن مختلف مدخلات وعمليات ومخرجات هذا التعليم، فهى المسؤولة عن تحديد اعمار التلاميذ وقبولهم بالمدارس، وهى المسؤولة عن التدريس والانشطة التعليمية والمدرسية وكل مايحدث داخل المدارس، والمسؤولة عن تعيين المعلمين وترقياتهم وتحديد مرتباتهم وحوافزهم، والمسؤولة عن الادارات المختلفة ابتداء من ادارة المدارس، وصولا الى الادارة المركزية، وهى المسؤولة عن التفتيش والتوجيه المالى والادارى والفنى، والمسؤولة عن الامتحانات: عقدها والاشراف عليها واعلان نتائجها، ومن هنا ولما كان هذا الحجم الهائل لنظام التعليم مما تنوء به اكبر الادارات المركزية، فقد راحت اجزاء عديدة من منظومتنا التعليمية تتدهور يوما بعد يوم

ومن مظاهر التدهور النى يعانيها نظامنا التعليمى، مدارس فقدت دورها التربوى والتعليمى وتخلت عنه للدروس الخصوصية ومراكزها المنتشرة،  ومعركة طاحنة لتجريم للدروس الخصوصية انتصر فيها اباطرة تلك الدروس، وكتب مدرسية  – تتكلف المليارات من الجنيهات – لايستخدمها التلاميذ ويفضلون عليها كتبا خارجية تافهة وعديمة القيمة، ومعلمون محبطون يائسون يتقاضون مرتبات هزيلة، وتدور بينهم وبين الدولة معارك الكر والفر حول ” كادر المعلمين” وبضعة عشرات من الجنيهات، وشهادات دراسية  مشكوك فى قيمتها اصلا، فلم يعد احد متأكدا ان شهادة الاعدادية او الدبلوم الفنى تعنى ان صاحبها يجيد القراءة والكتابة، ولا احد يعرف ماهو المعنى الحقيقى لحصول طالب على مجموع يتجاوز المئه بالمئة فى الامتحان، ومؤسسة للجودة والاعتماد الاكاديمى  لا احد يعرف كيف تعمل وماهى المعايير التى وضعتها لتك الجودة وذلك الاعتماد، وتتعدد مؤتمرات تطوير التعليم ولا يلمس احدا نتيجة لتوصياتها المنمقة0

 كل هذا لاننا – تحت ضغط الاعداد الهائلة والطلب الاجتماعى والموارد الهزيلة –  قد اختصرنا التعليم كله فى هدف واحد وحيد وهو الحصول على الشهادة بأى وسيلة ومن اى طريق، وهو الامر الذى اضفى المشروعية على ظواهر الغش وتسريب الامتحانات وغيرها من مظاهر اشرنا اليها، وهى لا تمت بصلة الى التعليم وتكوين الانسان وتعظيم قدراته على الفهم والتفاعل الخلاق مع المجتمع ومشكلاته وتحديات، وساعد على اختصار الهدف من التعليم فى الحصول على الشهادة، تلك الهيمنة المركزية للدولة على التعليم فمن المنطقى ان تلك الهيمنة المركزية من الصعب بل من المستحيل، ان تضمن سير جميع مفردات العملية التعليمية فى جميع المدارس وجميع الادارات، وتضمن فى نفس الوقت اداء جميع المعلمين وتأثيراتهم المتعددة والمتنوعة على ملايين الطلاب، ومن ثم يصبح منح الشهادة هو الهدف الممكن والمتاح لتلك الهيمنة المركزية

وقد كان من المنطقى فى ظل ذلك التدهور ان تختفى الاهداف الاساسية للتعليم 0

  فلم يعد احد يعرف ماهى اهداف التعليم ؟ وماهى صورة الخريج الذى نرجوه ؟ وما اذا كان من الممكن قياس تلك الاهداف ؟وكيف يمكن قياسها؟ حتى لانظل نراوح مكاننا ونحن نتبادل الاتهامات حول اسباب الفشل الذى نغرق فيه عاما بعد عام لا كيف يمكن ان نحقق تلك الاهداف ولا كيف نقيل التعليم من عثراته

 ولقد استقر مفكرو النهضة المصرية كطه حسين ولطفى السيد وغيرهم على ان للتعليم اربعة اهداف كبرى، اولها : الاعداد للثقافة بمعناها العصرى ، او كيف يتفاعل خريج التعليم مع مختلف المصطلحات العصرية : الدستور ،البرلمان، الديمقراطية،  الاحزاب السياسية، قضايا المرأة، البيئة، حقوق الانسان، الغزو الثقافى، التراث، الفنون والآداب على اختلافها، هل يستطيع احد ان يشفى غليلنا حول ثقافة الطلاب؟ وماذا يقرأون؟ لا اظن ولكن الذى لا شك فيه ان مناهج التعليم لا تشجع على الفكر ولا تحرض على الثقافة، طالما انها تنتهى بامتحان يقيس ما حفظه التلاميذ”عن ظهر قلب”

ثانيا: الاعداد للمواطنة: فمن نافلة القول ان التلاميذ ينتمون الى بيئات مختلفة على المستوى الدينى والاقتصادى والثقافى والمهنى وغيرها من بيئات، لكل منها ثقافتها وقيمها ومصطلحاتها, ومن هنا فقد ظهرت المدرسة الحديثة التى تجمع مختلف التلاميذ من مختلف البيئات ، حيث تصبح المدرسة بوتقة تنصهر فيها تلك العناصر ويتخلق فيها التماسك والانتماء الوطنى بحيث يصبح فى المقدمة، ويتراجع الانتماء الى الاسرة او الطائفة الى مرتبة تالية، عبر دراسة التاريخ والمعارك الوطنية، وعبر المنهج والنظام الموحد ،وعبر المجانية والالزام فى التعليم0

 ورغم هذا فمن الملاحظ ان التعليم تخلى بجدارة عن ذلك الهدف، فلقد اصبح غالبية المعلمين من المحافظين  – ان لم نقل من المتطرفين دينيا- وراح الحجاب والنقاب ينتشر شيئا فشيئا ،رغم حكم القضاء بمنع النقاب فى المدارس، واشارت العديد من الدراسات الى التطرف الدينى فى مناهج التعليم، واغفال “القبطية” تاريخا وتراثا وثقافة، ولعل فيما نلاحظه من ان قادة جماعات التطرف والارهاب ممن حصلوا تعليما راقيا ما يؤكد ما نذهب اليه0

ثالثا : الرؤية العلمية واستخدام المنهج العلمى فى النظر للظواهر الطبيعية والمشكلات الاجتماعية، ولعل فيما نلاحظه حولنا من تفشى الخرافة وشيوع العديد من الخرافات كالتداوى ببول الابل ، ولسعات النحل وتفسير الكوارث الطبيعية او البشرية على انها غضبا الهيا لشيوع الفساد هنا او هناك، وحلقة الزار الوطنية التى تكتنفنا جميعا، كلها تؤكد ان التعليم قد اصبح فى واد والعلم فى واد آخر0

 رابعا : الاعداد المهنى، ويتدرج ذلك الاعداد المهنى من اجادة القراءة والكتابة فى السنة او السنوات الاولى للتعليم ، وصولا الى تخريج الطبيب الحاذق والهندس الماهر والمعلم القدير وغيرهم، ورغم ذلك فقد نشرت الصحف منذ اعوام ان محافظا لاحدى المحافظات قد اكتشف ان مايزيد على خمسة وعشرين بالمئة من طلاب الشهادة الاعدادية لايجيدون كتابة اسمائهم، واضطر لتعطيل الدراسة فى العديد من المدارس الاعدادية لمحو امية طلابها اولا، وقل مثل ذلك على مختلف الشهادات الفنية المتوسطة، فهل اختلف الحال الآن، لا اظن، وليس لدينا ما يدفعنا الى الظن  بأن الحال اختلف عما كان عليه 0 تلك هى الاهداف التى اجمع عليها مفكرى النهضة المصريين، وهى فى نفس الوقت الاهداف الاساسية لمختلف نظم التعليم العصرية ، اما التعليم للتنافس او للتميز فهو امر يستلزم بالضرورة تحقيق تلك الاهداف الاساسية اولا0

ليس معنى هذا اننى ازعم ان التعليم قد اصبح ميؤسا منه، فماذالت لدينا العشرات من المدارس الحكومية التى تقدم بمجانيتها نموذجا يتفوق على العديد من المدارس الخاصة ذات المصروفات الباهظة، وماذال لدينا المعلمون الذين ينظرون الى مهنتهم باعتبارها رسالة سامية، و المديرون الذين يتفانون فى اعمالهم ، والرغبة الاجتماعية الصادقة فى التعلم والتى تدفع الطلاب واولياء امورهم الى بذل الجهد والمال

والذى نطرحه هنا ان مؤسسات المجتمع المدنى تملك من الخبرات والامكانيات الادارية والمالية والفنية ما يجعلها عنصرا فعالا من عناصر تطوير التعليم ومراقبة جودته واثراءه ولكن ذلك لايمكن الا ان يتم بعدة شروط منها ان تؤمن وزارة التربية والتعليم بقدرات مؤسسات المجتمع من ناحية، وان تؤمن بان دورها ينبغى ان يتغير من مجرد تقديم بعض المساعدات والانشطة، الى دور الشريك الكامل ولا شك ان الوزارة قد خطت فى هذا السبيل خطوات بعيدة باعتمادها صيغة مجلس الامناء بصيغة مجلس الآباء العقيم، ومع ذلك ايضا فان مجلس الامناء تعوقه العديد من العقبات والمصاعب التى ينبغى ان نسعى لحلها فى سبيل تفعيله وفى سبيل التوجه نحو شراكة اجتماعية شاملة0

وهى كلها عناصر تؤسس لتعليم عصرى اذا ادركنا بجد اننا من هنا نبدأ

ومن هنا كانت ورشة العمل فى شرم الشيخ والتى استهدفت مناقشة وتطوير استراتيجية وزارة التربية والتعليم، بما يتفق مع ايمان فريق من المجتمع المدنى بأن قضية التعليم أكبر من ان تكون قضية وزارة التعليم،